عن
أبي عبدالله جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما ، أن رجلا سأل رسول
الله عليه وسلم فقال : " أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات ، وصمت رمضان ،
وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ " ،
قال : ( نعم ) . رواه مسلم .
ومعنى حرّمت الحرام : اجتنبته،
ومعنى أحللت الحلال : فعلته معتقدا حلّه .
الشرح
لما
أرسل الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، جعل الغاية من ابتعاثه
الرحمة بالخلق ، والإرشاد إلى أقصر الطرق الموصلة إلى رضى الربّ ، وإذا
رأينا قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ( الحج : 107 ) ،
تداعى إلى أذهاننا الكثير من الصور التي تؤكّد هذا المعنى ، فإنه صلى الله
عليه وسلم لم يدّخر جهدا في إنقاذ البشرية من الضلال ، وتبصيرهم بالهدى
والحق .
وتحقيق
هذا الهدف يتطلّب الإدراك التام لما عليه البشر من تنوّع في القدرات
والطاقات ، إذ من المعلوم أن الناس ليسوا على شاكلة واحدة في ذلك ، بل
يتفاوتون تفاوتا كبيرا ، فلئن كان في الصحابة من أمثال الصدّيق و الفاروق
وغيرهم من قادات الأمة الذين جاوزت همتهم قمم الجبال وأعالي السحاب ، فإن
منهم – في المقابل – الأعرابي في البادية ، والمرأة الضعيفة ، وكبير السنّ ،
وغيرهم ممن هم أدنى همّة وأقل طموحا من أولئك الصفوة .
ولذلك
نرى – في الحديث الذي نتناوله – هذا الصحابي ، وقد أتى ليسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، سؤال المشتاق إلى ما أعده الله تعالى لعباده المتقين
في الجنة ، ومسترشدا عن أقصر الطرق التي تبلغه منازلها ، فقال : " أرأيت
إذا صليت الصلوات المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ،
ولم أزد على ذلك شيئا ، أأدخل الجنة ؟ ".
إن
هذا السؤال قد ورد على ألسنة عدد من الصحابة رضوان الله عليهم بأشكال
متعددة ، وعبارات متنوعة ، فقد ورد في صحيح البخاري و مسلم ، أن أعرابيا
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( خمس صلوات في اليوم والليلة ) ، فقال : هل علي غيرها ؟ ،
قال : ( لا ، إلا أن تطوع ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وصيام
رمضان ) ، قال : هل علي غيره ؟ ، قال : ( لا ، إلا أن تطوع ) ، وذكر له
رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة ، قال : هل علي غيرها ؟ ، قال : ( لا ،
إلا أن تطوع ) ، قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا
أنقص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلح إن صدق ) ، وعن أبي
أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني
بعمل يدخلني الجنة ؟ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعبد الله لا
تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم ) رواه البخاري .
ومما
لا ريب فيه أن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحديث
الذي نحن بصدده – كان دقيقا في اختياره للمنهج الذي رسمه لنفسه ؛ فإنه قد
ذكر الصلوات المكتوبات ، وهي أعظم أمور الدين بعد الشهادتين ، بل إن تاركها
بالكلية خارج عن ملة الإسلام ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( العهد الذي
بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ) .
وبعد
الصلاة ذكر صوم رمضان ، وهو أحد أركان الإسلام العظام ، و مما أجمع عليه
المسلمون ، وقد رتّب الله عليه أجراً كبيراً ، يقول النبي صلى الله عليه
وسلم : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
ثم
أكّد التزامه التام بالوقوف عند حدود الله وشرائعه ، متمثلا بتحليل ما
أحله الله في كتابه ، وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ، واجتناب
ما ورد في هذين المصدرين من المحرمات ، مكتفيا بما سبق ، غير مستزيد من
الفضائل والمستحبات الواردة .
ولسائل
أن يسأل : لماذا لم يرد ذكر للحج والزكاة في الحديث ، على الرغم من كونهما
من أركان الإسلام ، ولا يقلان أهمية عن غيرهما ؟ والحقيقة أن الجواب على
ذلك يحتاج منا إلى أن نعرف الفرق بين الحج والزكاة وبين غيرهما من العبادات
، فإن فرضيتهما لا تتناول جميع المكلفين ، فالحج لا يجب إلا على المستطيع ،
كما قال الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }
(آل عمران : 97 ) ، كذلك الزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب ، ونستطيع أن
نقول أيضاً : إن هذا الحديث ربما ورد قبل أن تفرض الزكاة أو الحج ؛ فإن
الحج قد فُرض في السنة الثامنة ، والزكاة وإن كانت قد فُرضت في مكة فإنها
كانت عامة من غير تحديد النصاب ، ولم يأتي بيان النصاب إلا في المدينة ،
ولعل هذا هو السر في عدم ذكرهما في الحديث .
وهنا
تأتي البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ليبين أن الالتزام بهذا المنهج
الواضح ، كاف لدخول الجنة ، وهذا يعكس ما عليه الإسلام من يسر وسماحة ،
وبعدٍ عن المشقّة والعنت ، فهو يسرٌ في عقيدته ، يسرٌ في عباداته وتكاليفه ،
واقع ضمن حدود وطاقات البشر ، وهذا مما اختص الله تعالى به هذه الأمة دون
سائر الأمم .
لكن
ثمة أمر ينبغي ألا نُغفل ذكره ، وهو أن التزام العبد بالطاعات وفق ما أمر
الله به ، واجتناب المحرمات وتركها ، يحتاج إلى عزيمة صادقة ، ومجاهدة
حقيقية للنفس ، وليس اتكالا على سلامة القلب ، وصفاء النية ، وليس اعتمادا
على سعة رحمة الله فحسب ، لأن للجنة ثمنا ، وثمنها هو العمل الصالح كما قال
الله تعالى : { وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ( الزخرف : 72 )
، فإذا صدقت نية العبد ، أورثته العمل ولابد .
وعلى
أية حال فإنه يجب على الدعاة إلى الله أن يفهموا طبيعة هذا الدين ؛ حتى
يتمكّنوا من تربية الناس على مبادئه ، نسأل الله تعالى أن يلهمنا الخير
والصواب ، والحمد لله رب العالمين .