عن
أبي عمرو سفيان بن عبدالله الثقفي ، رضي الله عنه قال : قلت : " يا رسول
الله ، قل لي في الإسلام قولا ، لا أسأل عنه أحدا غيرك " . قال : ( قل آمنت
بالله ، ثم استقم ) رواه مسلم في صحيحه .
الشرح
إن
غاية ما يتطلع إليه الإنسان المسلم ، أن تتضح له معالم الطريق إلى ربّه ،
فتراه يبتهل إليه في صلاته كل يوم وليلة أن يهديه الصراط المستقيم ، كي
يتخذه منهاجا يسير عليه ، وطريقا يسلكه إلى ربه ، حتى يظفر بالسعادة في
الدنيا والآخرة .
ومن
هنا جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبدالله رضي الله عنه ، إلى النبي صلى
الله عليه وسلم ، وانتهز الفرصة ليسأله عن هذا الشأن الجليل ، فجاءته
الإجابة من مشكاة النبوة لتثلج صدره ، بأوضح عبارة ، وأوجز لفظ : ( قل آمنت
بالله ، ثم استقم ) .
إن
هذا الحديث على قلة ألفاظه ، يضع منهجا متكاملا للمؤمنين ، وتتضح معالم
هذا المنهج ببيان قاعدته التي يرتكز عليها ، وهي الإيمان بالله : ( قل آمنت
بالله ) ، فهذا هو العنصر الذي يغير من سلوك الشخص وأهدافه وتطلعاته ، وبه
يحيا القلب ويولد ولادة جديدة تهيئه لتقبل أحكام الله وتشريعاته ، ويقذف
الله في روحه من أنوار هدايته ، فيعيش آمنا مطمئنا ، ناعما بالراحة
والسعادة ، قال الله تعالى مبينا حال المؤمن : { أو من كان ميتا فأحييناه
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } (
الأنعام : 122 ) ، فبعد أن كان خاوي الروح ، ميّت القلب ، دنيوي النظرة ،
إذا بالنور الإيماني يملأ جنبات روحه ، فيشرق منها القلب ، وتسمو بها الروح
، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه.
فإذا
ذاق الإنسان حلاوة الإيمان ، وتمكنت جذوره في قلبه ، استطاع أن يثبت على
الحق ، ويواصل المسير ، حتى يلقى ربّه وهو راض عنه ، ثم إن ذلك الإيمان
يثمر له العمل الصالح ، فلا إيمان بلا عمل ، كما أنه لا ثمرة بلا شجر ،
ولهذا جاء في الحديث : ( ثم استقم ) فرتّب الاستقامة على الإيمان ،
فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق ، ويجدر بنا في هذا المقام أن
نستعرض بعضاً من جوانب الاستقامة المذكورة في الحديث .
إن
حقيقة الاستقامة ، أن يحافظ العبد على الفطرة التي فطره الله عليها ، فلا
يحجب نورها بالمعاصي والشهوات ، مستمسكا بحبل الله ، كما قال ابن رجب رحمه
الله : " والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم من غير
تعويج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها : الظاهرة والباطنة ،
وترك المنهيات كلها " ، وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين
حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم
ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ( الروم : 30 ).
وقد
أمر الله تعالى بالاستقامة في مواضع عدة من كتابه ، منها قوله تعالى : {
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } ( هود : 112 ) ، وبيّن سبحانه هدايته لعباده
المؤمنين إلى طريق الاستقامة ، كما قال عزوجل : { وإن الله لهاد الذين
آمنوا إلى صراط مستقيم } ( الحج : 54 ) ، وجعل القرآن الكريم كتاب هداية
للناس ، يقول الله تعالى في ذلك : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } ( إبراهيم : 1 ).
ولئن
كانت الاستقامة تستدعي من العبد اجتهاداً في الطاعة ، فلا يعني ذلك أنه لا
يقع منه تقصير أو خلل أو زلل ، بل لا بد أن يحصل له بعض ذلك ، بدليل أن
الله تعالى قد جمع بين الأمر بالاستقامة وبين الاستغفار في قوله : {
فاستقيموا إليه واستغفروه } ( فصلت : 6 ) ، فأشار إلى أنه قد يحصل التقصير
في الاستقامة المأمور بها ، وذلك يستدعي من العبد أن يجبر نقصه وخلله
بالتوبة إلى الله عزوجل ، والاستغفار من هذا التقصير ، وهذا كقوله صلى الله
عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا ) رواه أحمد ، وقوله أيضا : ( سددوا
وقاربوا ) رواه البخاري .
والمقصود
منه المحاولة الجادة للسير في هذا الطريق، والعمل على وفق ذلك المنهج على
قدر استطاعته وإن لم يصل إلى غايته، شأنه في ذلك شأن من يسدد سهامه إلى هدف
، فقد يصيب هذا الهدف ، وقد تخطيء رميته ، لكنه بذل وسعه في محاولة تحقيق
ما ينشده ويصبو إليه .
وللاستقامة
ثمار عديدة لا تنقطع ، فهي باب من أبواب الخير ، وبركتها لا تقتصر على
صاحبها فحسب ، بل تشمل كل من حوله ، ويفهم هذا من قوله تعالى : { وأن لو
استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } ( الجن : 16 ) ، وتستمر عناية
الله بعباده المستقيمين على طاعته حتى ينتهي بهم مطاف الحياة ، وهم ثابتون
على كلمة التوحيد ، لتكون آخر ما يودعون بها الدنيا ، كما قال الله تعالى :
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا
ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة
الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون ، نزلا من
غفور رحيم } ( فصلت : 30 – 32 ) .
وإذا
أردنا أن تتحقق الاستقامة في البدن فلابد من استقامة القلب أولا ، لأن
القلب هو ملك الأعضاء ، فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله ،
ومحبته وتعظيمه ، استقامت الجوارح على طاعة الله ، ثم يليه في الأهمية :
استقامة اللسان ، لأنه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه .
نسأل الله أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا .