عن
أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
الشرح
إن
المتطلع إلى مبادئ ديننا الحنيف ، ليبهره جوانب التكامل في تشريعاته ، مما
يجعله موقنا بتفرد الإسلام في شموليته ، فهو يدعو الإنسان إلى أن يحسن
صلته بخالقه ، وفي الوقت ذاته يضع الأسس المتينة ، والقواعد الراسخة في
تعامله مع غيره من الخلق .
ومن
هنا تظافرت نصوص الكتاب والسنة مؤيدة لهذه الرؤية ، وموضحة لمعالمها ،
وجعلت الإحسان هو الأساس الذي تنبثق منه هذه العلاقات ، وقد نبهنا الله
سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه العزيز فقال : { إن الله يأمر بالعدل
والإحسان } ( النحل : 90 ) ، فبيّن وجوب العمل بمقتضى الإحسان ، وأحاط
العاملين بها بمعيّته الخاصة ، وشملهم برعايته وتأييده ، كما قال عزوجل : {
وإن الله لمع المحسنين } ( العنكبوت : 69 ) ، كذلك فإنه قد بيّن السبل
لتحقيق ذلك في الكثير من المواضع ، ومن جملتها ، الحديث الذي بين أيدينا ،
والذي جاء موضحا كيفية الإحسان إلى الخلق .
فبعد
أن قرّر النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإحسان في كل ميدان ، وعلى كل شيء
، وأكّد على ذلك بقوله : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ، عرّج بعدها
بذكر مثالين اثنين ، يلزم الإنسان المسلم فيهما مراعاة الإحسان ،
والمحافظة عليه .
ففي
قوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) ، توجيه نبوي إلى الإحسان في هيئة
القتل ، ويكون ذلك بالإسراع في إزهاق النفس التي أبيح دمها حال القصاص أو
حال الحرب ، ولئن جاز للمسلمين معاملة من حاربهم بالمثل ، فإن ذلك لا يبيح
لهم التمثيل بالقتلى ، والتشويه للجثث بدون سبب شرعي ، لما في ذلك من
منافاة للمثل العليا التي يدعو إليها ديننا الحنيف .
ويدخل
ضمن الأمر بإحسان القتل ، تحريم التعذيب بالنار ، وليس ذلك للبشر فحسب ،
بل حتى للحيوانات والحشرات ، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ؛ وهذا يؤكد حرص
الإسلام على اختيار أيسر الطرق المؤدية إلى خروج الروح عند تحتّم القتل .
ثم
انتقل الحديث بعد ذلك إلى قضية الإحسان في الذبح ، بآدابه الراقية التي
تجسد معاني الرفق بالحيوان ، وقد ذكر العلماء هذه الآداب في كتب الفقه ،
وأسهبوا في شرحها ، فمن ذلك : أن يذبح البهيمة بآلة حادة ، تعجّل من خروج
روحها ، وإنهار دمها ، فلا تتعذب كثيرا ، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد و
ابن ماجة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بحد الشفار " ، وقد جعل العلماء ذلك شرطا في آلة الذبح ، كما جاء في
الحديث : ( ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكلوه ، ليس السن والظفر )
رواه الشيخان .
ومن
الإحسان في الذبح ، ألا يقوم الذابح بحد شفرته أمام الذبيحة ، فقد مر رسول
الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة ، وهو يحد شفرته ،
وهي تلحظ إليه ببصرها فقال : ( أتريد أن تميتها موتات ؟، هلا حددت شفرتك
قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم ، وكذلك فإنه يستحب له أن لا يذبح ذبيحة
بحضرة أخرى ، ولا يظهر السكين أمام الذبيحة إلا عند مباشرته للذبح .
ومن
الرفق بالذبيحة ، أن تساق إلى المذبح سوقا هينا ، فلا يجرّها بأذنها ، أو
يسوقها سوقا عنيفا ، كما ذكر ذلك الإمام أحمد ، فإذا أراد أن يذبحها ،
فعليه أن يضجعها على شقها الأيسر برفق ، لما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه
الله عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش
أقرن ، فأتى به ليضحي به ، فقال لها : ( يا "عائشة" ، هلمي المدية) ، ثم
قال : ( اشحذيها بحجر ) ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ، ثم ذبحه " ،
وقد صرّح الإمام النووي بوقوع الإجماع على هذه المسألة ، واستحب الشافعية
أيضا عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها .
وبعد
أن يسمّي ، يسرع في قطع الأوداج ، وإنهار الدم ، حتى يريح الذبيحة ، ولا
يباشر بقطع شيء منها ، أو سلخها ، حتى تتم الذكاة وتخرج الروح ، ولا ينبغي
له أن يبالغ في الذبح حتى يقطع الرأس ، فإن ذلك مناف للإحسان إليها .
إن
كل ما سبق ، يزيد المرء إيمانا بكمال هذا الدين ، وتناوله لجميع نواحي
الحياة ، وبهذا المنهج الرباني الذي يتألق سموا بتلك المعاني السامية ،
يمكن للبشرية أن تخرج من ظلمات التيه ، لتقتبس من نور الإسلام ، وترتبط
بخالقها جلّ وعلا برباط محكم وثيق ، فتعيش آمنة مطمئنة ، وهذا ما نتطلع إلى
حصوله بإذن الله العلي القدير .