عن ابن مسعود رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايحل دم امريء مسلم يشهد
أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ،
والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه البخاري و مسلم .
الشرح
ابتعث الله
سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الخاتم ، الذي يخرج
الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان ، إلى عدل
الإسلام ، فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين ، والتزم بأحكامه ، صار فردا من
أفراد المجتمع الإسلامي ، يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له ، ومن جملة هذه
الحقوق ، عصمة دمه وماله وعرضه .
وإعطاء المسلم
هذه الحقوق له دلالته الخاصة ، فالحديث عن العصمة بكافة صورها هو حديث عن
حرمة المسلم ، ومكانته في هذا المجتمع ، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم
هذه الحقوق يوم حجة الوداع فقال : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ، كحرمة
يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) رواه مسلم ، وقال أيضا : (من
صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله
وذمة رسوله) رواه البخاري .
والشريعة
الإسلامية - بما تكفله من هذه الحقوق - تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لبنات
المجتمع المسلم ، وتعميق الروابط بين المؤمنين ، وبهذا يتحقق لهذا المجتمع
أمنه ، وسلامة أفراده .
ولكن المشكلة
تكمن في أولئك الأفراد ، الذين يشَّكل وجودهم خطرا يهدد صرح الأمة ، ولم
تكن هذه الخطورة مقتصرة على فسادهم الشخصي ، أو وقوعهم في بعض المحرمات
وتقصيرهم في حقوق ربهم ، إنما تعدت إلى انتهاك حقوق الآخرين ، وتهديد حياة
الاستقرار التي يعيشها هذا المجتمع ، فمن هنا رفع الإسلام عن هؤلاء المنعة
الشرعية ، وأسقط حقهم في الحياة .
وفي الحديث
الذي بين أيدينا بيان لتلك الأمور التي من شأنها أن تزيل العصمة عن فاعلها ،
وتجعله مهدر الدم ، وهي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( الثيّب الزاني ،
والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
فأما الزاني
المحصن ، فإن الحكم الشرعي فيه هو الرجم حتى الموت ، ولعل في حديث عبادة بن
الصامت رضي الله عنه ، دلالة واضحة على هذا الحكم ، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( ..والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم ) رواه مسلم ، وقد رجم
النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا و الغامدية رضي الله عنهما في عهده ، وأجمع
المسلمون على هذا الحكم ، وكان فيما نزل من القرآن ، ثم نسخ لفظه وبقي
حكمه : " والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله ، والله
عزيز حكيم " - انظر مجموع الفتاوى 20/399 - .
وليس ثمة شك
في أن هذا الحكم الذي شرعه الله تعالى في حق الزاني المحصن ، هو غاية العدل
، وهو الدواء الوحيد لقطع دابر هذه الظاهرة ، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم
بعباده ، وهو الذي خلقهم ، فهو أدرى بما يصلحهم وينفهم ، لأنه أحكم
الحاكمين ، ولكنا إذا أردنا أن نتلمس الحكمة في تشريع الله تعالى لهذا
النوع من العقوبة ، بحيث اختصت في هذا الحد من الحدود ولم تشرع في غيره ،
فنقول : إذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نتأمل الآثار المدمرة التي يخلفها
مثل هذا الفعل الشنيع على جميع المستويات ، فهو ليس انتهاكا لحقوق الآخرين
واعتداء على أعراضهم فحسب ، بل هو جريمة في حق الإنسانية ، وإفساد للنسل
والذرية ، وسبب في اختلاط الأنساب ، فلهذا وغيره ، جاء حكم الله تعالى في
الزاني المحصن على هذا النحو .
ويجدر بنا أن
نشير إلى أن هذه العقوبة لا تتم إلا عندما يقرّ الزاني بما فعله من تلقاء
نفسه ، أو بشهادة أربعة شهود على حصول ذلك منه ، وهذا في الحقيقة قد يكون
متعذراً ، ومن ناحية أخرى دعت الشريعة من زلت قدمه بهذه الخطيئة أن يستر
على نفسه ولا يفضحها ، ويتوب إلى الله عزوجل ، ولا داعي لفضح نفسه ، ولهذا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يراجع من يعترف بفعله مرات ومرات ، لعله
يتراجع عن اعترافه هذا ، ونلمس ذلك جليا في قوله صلى الله عليه وسلم : (
لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) البخاري ، ومن هنا نرى أن الشريعة وضعت هذا
الحد ضمن قيود واضحة ، وضوابط محددة ؛ حتى لا يطبق إلا في نطاق لازم ، وفي
الموضع الصحيح .
إن ذلك يعطينا
تصورا واضحة بأن هذه العقوبة ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها ، ولكنها
وسيلة لاستئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها ، وهذا ما أثبته التاريخ في
العهد النبوي ، فإن كتب السير لم تنقل لنا حصول هذه الجريمة الخلقية إلا في
عدد محدود للغاية .
ثم ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم أمرا آخر يحل به دم المسلم وهو : ( النفس بالنفس ) أي :
قتل العمد ، وقد أجمع العلماء أن قاتل النفس المعصومة عمدا مستحق للقتل
إذا انطبقت عليه الشروط ، انطلاقا من قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس } ( المائدة :45 ) ، وهذا يشمل أن يكون المقتول أو القاتل
ذكرا أم أنثى ، وهذا العموم مفهوم من الآية السابقة ، يؤيد ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم صح عنه أمر بقتل يهودي قصاصا من امرأة .
وإذا نظرنا
إلى قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ( البقرة :179) ،
لأدركنا عظم الحكمة التي لأجلها شرع القصاص في الإسلام ، فالقصاص بحد ذاته
ليس انتقاما شخصيا ، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة ، بل هو أمر أعظم من
ذلك ، إنه حياة للأمم والشعوب ، فإن القاتل إذا علم أن حياته ستكون ثمنا
لحياة الآخرين ، فسوف يشكّل ذلك أكبر رادع له عن فكرة القتل ، وبهذا تستقيم
الحياة ، وتعيش المجتمعات في أمن وطمأنينة .
وثالث الأمور
التي تهدر الدم وتسقط العصمة ، الردة عن دين الله تعالى ، لقوله صلى الله
عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أي : المفارق لجماعة
المسلمين ، ويعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والردة قد
تكون بالقول الصريح : كأن يكفر بالله صراحة ، أو بالاعتقاد : كأن يجحد شيئا
معلوما من الدين بالضرورة ، أوإنكار النبوة أو البعث ، أو تكون باستحلال
ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، كما قد تكون بالفعل : كمن رمى المصحف
في مكان القاذورات - والعياذ بالله - أو سجد لصنم ، فهذه أمثلة على بعض ما
يخرج المرء من دين الله .
وينبغي أن
نشير هنا إلى أنه قد ورد في أحاديث أخرى القتل بغير هذه الثلاث ، فقد ورد
قتل اللوطي ، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه
الإمام أحمد في مسنده ، و أبوداود و الترمذي ، كما ورد الأمر بقتل الساحر ،
وقتل من أراد أن يشق عصا المسلمين ، ومن أراد الإفساد في الأرض وقطع
الطريق ، ولعلنا نلاحظ أن هذه الأصناف المذكورة تندرج ضمنا تحت الأنواع
الثلاثة التي تناولها الحديث .
إن هذه
التشريعات التي أحكمها الله سبحانه وتعالى هي صمام الأمان الذي يحفظ للأمة
أمنها واستقرارها ، وبها تصان حقوق الفرد والمجتمع ، فحري بنا أن نعقلها
ونتدبرها ، وأن نطبقها على واقعنا كما سطرناها في كتبنا