عن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الشرح
كان
النبي صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير
لمعاشهم ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ،
والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي
بين أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل
ما فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .
والراوي لهذا الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا الحديث منها .
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : ( دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 ) ، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا ريب ولا شك فيه .
وفي
هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ،
بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟
.
إن المتأمل لهذا الحديث مع الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس
المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة لبيان منهج التعامل مع ما يريب ،
فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن ترك الشبهات في العبادات
والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان إلى الورع والتقوى ،
واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن بشير رضي
الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة في أمر
محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله ورسوله ،
عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .
ولسلفنا الصالح رضوان
الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي تدل على
تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن الصحابي الجليل
أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .
ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال
له الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت
تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ،
فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي
الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .
ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة
فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك
الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : " إنما بعتك الأرض
وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : " ألكما ولد ؟ " قال
أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال : " أنكحوا
الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .
وللفقهاء
وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب
كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك
ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا
أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه
قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة
السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه
متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .
وللحديث زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ) ،
وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما يريبه ، فقد حمى نفسه من
الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده
عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه النبوي ، وأبى الابتعاد عن
طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن من طبيعة المشكوك فيه ألا
يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة القول : إن هذا الحديث يعطي
تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى أثر ذلك على راحة النفس
وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الورع والتقى ؛ إنه
وليّ ذلك والقادر عليه .